الإبداع الفضائي

الإبداع الفضائي (https://www.fadaeyat.co/)
-   معلومات عامة ، حدث في مثل هذا اليوم (https://www.fadaeyat.co/f4/)
-   -   دوالي العنب بهجة الكرم العالي (https://www.fadaeyat.co/fadaeyat96824/)

*HOB* 24 ذو القعدة 1436هـ / 7-09-2015م 16:02

دوالي العنب بهجة الكرم العالي
 
لا تزال صورها وصور عناقيدها شاخصة على الأرضيات الفسيفسائية في مأدبا وجرش وطبقة فحل وغيرها من المواقع الأثرية، تُثبت أن هذه الأرض معطاءة منذ فجر التاريخ. وكيف لا تصين صور الكرمة والعنب لوحات الفسيفساء اليونانية والإغريقية والهلنستية المنتشرة في مواقع الوطن الأثرية، وهم من خصصوا بين أهم ألهتهم إلها خاصاً يعمل في زراعة الكروم وتصنيع عصيرها، وهو ديونيسيوس، ذاك الذي لم تكتمل فترة حمله في أحشاء زيوس، الذي نقله من أحشائه ليحفظه في فخذه، لِيُولد منها بعد اكتمال فترت الحمل. وما أشبه هذه الصورة الأسطورية بعملية تعقيل شتول العنب.

https://www.fadaeyat.co/up/images/727...8346845736.jpg

ولِلكرمة وعِنَبِها مكانة خاصة في الديانات التوحيدية؛ فهي أول شجرة مثمرة زرعها سيدنا نوح بعد الطوفان بحسب ما ورد في سفر التكوين 9: 20 من العهد القديم «ابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا»، ليكون بذلك أول فلاح وتكون الكرمة أول شجرة تزرع. كما شبه السيد المسيح نفسه بالكرمة، وأن على المؤمن أن يكون غصناً صالحاً صانعاً لثمر الأيمان، لا لثمر التدين الظاهري، فهنالك أشجار عنب بري لا تثمر، أما الأشجار الجيدة فتجود بثمر كثير، وهكذا هو المؤمن الحقيقي (يوحنا 15: 1-5)، وفي القرآن الكريم تجد تكريما خاصاً لهذه الشجرة المباركة وثمارها بذكره أحدى عشرة مرة في عشر أيات، وقد ارتبط أغلبها ارتباطاً مباشر في وصف الحدائق والجنة؛ ومنها الأية التاسعة عشرة في سورة «المؤمنون» فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.
ويطيب لك أن تغني في آب اللّهاب طبّاخ الأعناب، وفي حر أيلول صاحب الذيل المبلول كلمات أُغنية «بين الدوالي والكرم العالي يا محلى السهرة والبدر يلالي»، فيبزغ أمامك طيف سميرة توفيق بصوتها المُغرق في الأصالة، لتعيد إلى الأذهان شيّاباً عشقوا سماعها، وعشقوا الشامة على خدّها، لكنهم عشقوا نبش الصخر والحجر وصنع الحياة وسط الموت أكثر، فبقيت أثارهم خضراء شاخصة على تلالنا وجبالنا تشامخ حتى اليوم كروماً نتلذذ بنِتاجها.
وبتذوق ثمارها يصدح صوت توفيق النمري الحصناوي في رأسك بكلمات عذِبات، فقال: «طعمك حليلي يا عنب واصلك خليلي يا عنب»، مجسداً علاقة عاشقة بين ابن الحصن الحصن والخليل. ولم يقتصر التغّني بثمار العنب فحسب بل وبورقه أيضا، فتغنت شريفة فاضل به، قائلة: «ورق العنب ظلل على شباكنا».
ولا يزال الصوت الفيروزي يصدح طالباً النايَ ليغنِّ:
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت كثريات الذهب
لقد صدق جبران خليل جبران بوصفها بثريات الذهب، فهي بصدق ذات مشهد يبهج الناظرين ومذاق يسحر المتذوقين. وهو ذات المشهد الذي تغنى به من قبله بمئات السنين الشاعر والخليفة العباسي ابن المعتز، قائلا:
وحبة من عنب من المنى متخذهْ
كأنها لـــؤلـــؤة في بطنها زمردهْ
وللعنب مكانة هامة في الطب القديم فقد عرفة أطباء اليونان والإغريق والفراعنة وجنوب شرق أسيا، وبكل تأكيد الأطباء العرب والفرس الأقدمين وصولاً الى الطب الحديث، حيث شاع في الطب القديم وصف العنب وعصيره كنافع للمعدة وملطف للبطن الممسوك ومسهل له، منظف للقناة الهضمية وطارد للسموم منها ومن الجسم عموماً، ومقوي للأم الحامل والمرضعة، ومدرّ للحليب، ومنشط للجسم المرتخ والهزيل والأعصاب المضطربة، ومقو للدم مساند له في حالات فقره. أما زبيبه فوُصف في سالف الزمان للأمرض الصدرية، وورقه دخل في صنع اللبخات للأمراض الجلدية.
لكن الطب الحديث لم يغفل عن العنب بل أخذ يحلل تراكيبه الكيميائية المختلفة، فوجد أن السبب في قدرة العنب على حماية الجسم من الأمراض والأورام الخبيثة يعود إلى احتوائه على فيتامينات (أ، ب، ج، هـ). ومن المعادن فهو بشكل أساس يحتوي على كل من الحديد والفوسفور والكالسيوم والبوتاسيوم، وهي مسؤولة أيضا عن تعزيز قوة الدم في خالات فقره. وقشور ثمر العنب خاصة غنية بفيتامين ب، وهو المسؤول عن سلامة الجهاز العصبي.
أما النسبة العالية للمحتوى السكري، وخصوصا سكر العنب أو ما يعرف بسكر الجلوكوز فتصل الى 10%، مما يجعله نافعاً في إزالة الإجهاد والإعياء ويمنح النشاط للجسم. ولوجود عنصر البوتاسيوم في العنب دور هام في خفض ضغط الدم، حيث أن له دورا هاما في عملية إدرار البول. ولمكونات العنب تأثير قاعدي على المعدة مما يساعد في حل مشكلة حموضة المعدة ومشكلة عسر الهضم أيضا. وتحتوي أوراق العنب على تأثير مشابه سواء في حال طبخها أو في حال غليها واستخدام منقوعها.
كما أكتشف العلماء وجود مركب هام موجود بشكل خاص في العنب الأحمر مسؤول عن تثبيط الالتهابات الرئوية، وعلاج الاحتقاء الرئوي الناجم عن التدخين، وسيسهم بشكل مباشر في حماية الشرايين من التصلب، وخصوصا في حال تناوله على شكل عصير.
ويحتفظ العنب المجفف أو ما يطلق عليه مصطلح «زبيب» بالعديد من الخواص العلاجية التي يملكها العنب الطازج، ويعتبر الزبيب مخلوطاً مع القلية (القمح المحمص) و القريش (بذور ثمار الصنوبر الحلبي البري) والبطم في مجملها الخليط الأكثر شعبية بين جيل أجدادنا كحلوى وسلوى في الشتاء القارص.
قد أبدعت جداتنا في صناعة الخَبيصة من العنب بأشكال متعددة بعضها على شكل رقائق تشبه أرغفة خبز الشراك، وأخرى على شكل مقاطع سمكية تشبه في حجمها قطع الهريسة أو الجبن، وأخرى حملنها على خيوط وكأنها شمعة، وأُعطيت أسماء مختلفة. إلا أن المكونات الرئيسة لهذه الحلوى متشابهة وتختلف بشكل بسيط في مقاديرها بحسب توفر المكونات الأخرى، حيث كان يصفى عصير العنب من الشوائب، ويتم غليه على النار في وعاء كبير. والبعض منهن كن يطبخنه على البخار لمنع احتراق مكوناته الملامسة لأسفل الوعاء من النار المباشرة، ثم يضِفن اليه مكيالا من طحين القمح البلدي لكل عشرة مكاييل، ويستمر التحريك حتى يصبح الطحين متجانساً مع العصير، وقبل رفع المكونات عن النار يزاد إليه القريش والسمسم، ليسكب بعدها على قطع قماش بيضاء، بعد ذلك ينشر في الشمس. وقبل أن نرفعه عن النار يتم إضافة المكسرات وهي القريش والسمسم واللوز، ثم يتم سكبه على ملحفة (قطع قماش بيضاء واسعة) على سطح المنازل، ويغطيه البعض بشاش خفيف درءا للغبار والطيور والحشرات، ويبقى هكذا حتى يجف ليُعَفّر بعدها بالقليل القليل من الطحين قبل لفه أو تقطيعه. كما كانت جداتنا يصنعن الزبيب من الثمار شديدة النضج. ومنه حصرم العنب كن يصنعن مخللا مميزا ولذيذا جداً، وخصوصا لمن يعشق الطعم الحامض. ولعل أمتع مراحل نمو الشجرة للأطفال هي تلك الفترة من الربيع والتي تتشكل فيها الزوائد الخضرية التي يستخدمها العنب في التعلق بالأشياء من حوله (يسمونها شوارب العنب) يلتقطونها ويلتهمونها بشغف، فيردد الشباب والشيبان «بين الدوالي والكرم العالي يا محلى السهرة والبدر يلالي».


الساعة الآن » 08:30.

Powered by vBulletin
.Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd