الإبداع الفضائي

الإبداع الفضائي (https://www.fadaeyat.co/)
-   شعر - خواطر - قصائد - حكم - اقوال - بوستات (https://www.fadaeyat.co/f219/)
-   -   قصة النذل والحكيم (https://www.fadaeyat.co/fadaeyat95181/)

*HOB* 27 شعبان 1436هـ / 14-06-2015م 17:39

قصة النذل والحكيم
 
قال الليث بن ضرغام
التقى ذات يوم نذل وحكيم, فلصق به الأول لصوق الكلب بأصحاب الرقيم, وقال: يا معلمي وسيدي, أخرجني مما أنا فيه وخذ بيدي, خدّامك عبد تائه حائر, سالك لدرب حائد جائر, فدلَّه على المحجة, وبيِّن له الحق بأوضح حجة.
فقال الحكيم: أبشر يا ابن بلدي, ولكن وجهك مخطوف يا ولدي, فما شأنك يا هذا, وعلام تسألني ولماذا؟
النَّذل: يا حكيم الحكماء, ويا عالم العلماء, إن عقلي حار, وفكري طار, وَبِتُّ أخشى عذاب النار, فدلني على السنة, وما يقربني إلى الجنة, فأشعر أنني ضيعت زهرة عمري, وملَّكت غيري زمام أمري, فأمضيت هذا العمر كالتابع الذليل, وبلغت هذا السن وكأنني فيل, كنت فيه لبعضهم مريداً, ووحشاً طريداً, أقلِّده تقليداً, وأسير حيث سار, وأصير حيث صار, ولا أخرج عما يرسمه من مضمار, إذا قال لا, فقولي: لا, وإذا قال نعم, قولي نعم, وجهتي الـ(عطايا) والمنن, ووظيفتي إشعال نار الفتن, بين الإخوة المتحابين, وعند الأخلاء المتآنسين, فدلَّني -بربك- بأوجز عبارة, وأرشدني بأدنى إشارة, ماذا أصنع وأفعل, وكيف أهتدي وأعمل؟!
الحكيم: يا ولدي أظنُّ أن داءك عضال, يصاب به بعض الرجال, وأخصُّ منهم بعض الحثالة, ويسمَّى هذا داء (النَّذالة), أصيب به من قبلك فقلَّما شفوا, ومنَّ الله على بعضهم فسكنوا ووقفوا, ومنهم من عولج بالتأديب, والوعظ والتأنيب, فنجح فيه ذلك, وتخلَّص مما هنالك, وبعضهم عولج بالجلد والضرب, حتى تخلص من ذلك الكرب, وبعضهم لم ينفع معه سوى ضرب العنق, حتى تخلص من ذاك الخلق, فلنرَ أيَّ الأدوية لك أنسب, وأي العلاجات لدائك أقرب.
النَّذل: تفضل شيخي وأستاذي, تكلَّم وأنا مصغٍ لا أسألك ما ذي, وأرجو أن ينجح الوعظ لعلاج علتي, والتأديب لسدِّ ضعفي وخلتي, أما الضرب فقد أكلته من كذا جندي, وأما الجلد جربته فحكَّ جلدي, وأما القتل فيا ويلي, أفِرُّ منه بِرَجِلي وخيلي, وما تكبَّدت نذالتي إلا هرباً منه, وما تولَّيت ما أرداني إلا بعداً عنه.
الحكيم: حسناً؛ فاستمع إذن لهذا التَّأصيل الأصيل, وأَطْرِق له إطراق الدرهم بجيب البخيل, ولا تقاطعني حتى أفرغ من كلامي, وأفرغ بعده من تأديبي ووعظي وملامي.
النَّذل: تفضل يا معلم المعلمين وأستاذ الأستاذين, فسأجلس منصتاً ولن أحيص حيصة البراذين!
الحكيم: يا ولدي! أما الرَّذيلة فَضِدُّ الفضيلة, وأما النَّذالة فأصل السَّفالة, ومنبع الرذالة, وأما الأرذلون فقد ذكروا في القرآن, واستعيذ من أرذل العمر على لسان العدنان, ولكنَّ مصطلح النذالة أشهر, والمتصفون بها أوفر, وذِكْرُها على لسان الناس أكثر.
يا ولدي! قد قال بعض أهل الأدب, كلاماً أرجو أن يكون لك فيه أرب, قالوا: "عشر فيهن الكمال: كرم الحسب، وشدة العقل، وصحة الدين، والسخاء، والمال، والحياء، والرفق، والتواضع، والشجاعة، وحفظ القرآن.
وعشر خصال تزري ومنها تتفرع النذالة: الحسب الرديء، والخلق الدنيء، وقلة العقل، وسوء الفعل، ودناءة النفس، والجبن، والبخل، والفجور، والكذب، والغِشُّ للناس والوقيعة فيهم".
و"قيل لمعاوية: ما النذالة؟ قال: الجراءة على الصديق, والنُّكول عن العدو!
وذمَّ أعرابيٌّ رجلاً [نذلاً] فقال: هو أقلُّ الناس ذنوباً إلى أعدائه، وأكثرهم تجرُّؤاً على أصدقائه وأوليائه!
وكتب بعضهم [عن النذل]: عدوُّه بمعزل عنه, وصديقه على وجل منه، إن شهد عافه، وإن غاب عنه خافه.
فيا ولدي! دع عنك تسويد الأنذال وابحث عن كريم الشمائل, فما أنت والكتابة إلا كما قال القائل:
تبحبح في الكتابة كلُّ وغدٍ *** فقبحاً للكتابة والعمالةْ

ترى الآباء نسبتهم جميعاً *** إلى الأبناء من فرط النّذالةْ

النَّذل: يا حكيم! قد علَّمت فأعلمت, وأصَّلت فأحكمت, وقد نفعنا لحظك, فما هو وعظك؟!
الحكيم: يا ولدي! لا تحشر أنفك فيما لا يعنيك, فتلقى من غيرك ما لا يرضيك, بل ويؤذيك, ونبينا قالها: من حسن إسلام المرء.., فادرأ عن نفسك إن استطعت الدرء.
النَّذل: أدرأ! ماذا أدرأ؟ وكيف أصنع حتى أبرأ؟!
الحكيم: ها أنت ذا قد أُصِبت في القَذال, وصنعت صنيع الأنذال, حسناتك أغاليط, وأفعالك تخاليط, لسانك مقراض الأعراض, وقلمك أساس الأمراض, تختبئ اختباء النسناس, وتأكل خبزك بلحوم الناس, يا عيبة العيوب، ويا ذَنوب الذُّنوب, يا أيها الصعلوك المضيِّع لشبابه, ويا من يجدُ الجليسُ إذا دنا ريح النذالة من ثيابه, كم ظلمت وبغيت, وجرت وتعديت, فتب وارجع, وعن ذنبك أقلع, ولا تركن في الخلق إلى أحد, وتوجه إلى ربك الواحد الصمد, فالذين غروك لن ينفعوك, وقد أسلموك وضيعوك, وأنت تمسح لهم النعال, وتهز لهم الأذيال.
فصرت من الخدم والأعوان, لمن كان أخا الإخوان, وتركض وراء الاستجناس, وتلهث على ما في أيدي الناس, كل برق لاح يستفزك, وكل صوت تسمعه يرعدك ويهزك.
قطوف عن الخيرات, منوع عن الثمرات, لا يثمر شجرك, ولا يمته حجرك. وقد زدت على الضلالة, ضغثاً على إِبَّالة, فكم بك من الناس فتنوا وعصوا ربهم, فطار بهم إبليس وأحبهم, بل منهم من ضرب وقَتَل, وعن دينه ومنهجه تحوَّل وانفتل, من سوء توجيهاتك, وقبيح كلماتك, وكم منهم من غلا وبدَّع العلماء, وازدرى وضيَّع الفضل والفضلاء, وكم منهم من الكذب دينه وديدنه, حتى صارت ديدان الأرض تلعنه, وكم من إخوة متحابين فرقت, وكم عقلاً لعاقل سرقت, فأنت رجل لا تحسن غير صنع الفتن, وفتل فتائل المحن, وليس عندك شرح المسائل, ولا حفظ الفضائل.
تزعم العلم والتحقيق, والفهم والتدقيق, وشغلك عليك حجة, لأنك ضيعت المحجة, فكيف سينفعك تحقيق كتب التوحيد, وأنت غارق إلى مشاشك في التقليد, وكيف تزعم معرفة علم الرجال, وغاية نقلك عن كذبة جُهَّال, فاتهمت الفضلاء بسرقة السيارات والدور, والبرآء بالرشوة وشهادة الزور, والصادقين بالكذب, والجادين بالهزل واللعب, وأصحاب التسنن بالبدعة, واتخذت ذلك لك صنعة, وأنت في كل ذلك, عمدتك شيئان فيما هنالك:
1.عقلك المسكين المهتري.
2. نقلك عن الكذاب والمفتري.
أليست هذه صفات إبليس, مع علمه وجهلك بالمقاييس, وأنت تخون الملح والعيش, وفي كل يوم نراك مع جيش, يوماً شامياً ويوماً يمانياً, وتارة من يعرب, وتارة رومانياً.
النَّذل: على رسلك على رسلك, فمثلي ليس نِدًّا لمثلك, وجزاك ربي خيراً, ولكنك لا تخاطب عَيْراً, قد قلت فأسمعت, وضربت فأوجعت! فزد في الوعظ كلامَك, وارحم الضعيف الذي أمامك.
الحكيم: يا ولدي! تريد الرحمة, وأنت تحسب كل بيضاء شحمة, وكل حمراء لحمة؟! لا يؤمن لك جانب, ولا يدوم لك صاحب, عقلك إلى جيبك أقرب, وتلدغ لدغ العقرب, تفتح الدفاتر القديمة إذا أفلست, وتنخنس انخناس القرد إذا أبلست, لا للعلم رفعت, ولا للأمة نفعت, خنت العلم منذ طفولتك, وخدمت الجهل في حال كهولتك, أظافرك تقلع, وأسنانك تقطع, ولسانك يبلع, وتأكل ولا تشبع, أتعبت نفسك, وأوجعت رأسك, وأثقلت فأسك, وضيعت غدك وأمسك.
كفَّرت الزعماء, وبدَّعت الفضلاء, تكذب وأجلك قريب, ولا تخجل من تصدر المحاريب, المنابر عافتك, والدنيا خطفتك, أخبارك منفوضة, وأوراقك مرفوضة, لا تستحي من الحق, ولا تخجل من الخلق, فإلى متى هذا الضياع, وعلام كل هذه الأطماع, وحتام هذا الانتفاع, على غيرك تكذب, والعنت له تبغي وتجلب, يا لك من رجل أفيك, تتهم غيرك بما فيك, وترميه بمراميك.
ويا لك من خيَّاب مخادع, تنق نقيق الضفادع, وتهاب فرقعة الأصابع, تعيش عيشة الأنذال, وتقوم أول الرجال, الأساتذة عافوك, والتلامذة عرفوك, فاللدغ والاختباء, ليس من سيما الشرفاء, ولا من هدي الفضلاء, فابحث لنفسك عن عيش كريم, ولو أن تنطوي في خدور الحريم.
النَّذل: يا حكيم الحكماء ويا بليغ البلغاء! أخبرني ورأسي في وجهك لن أرفع: ماذا أصنع, وقول من أسمع, فوالله لم تزد على أن جعلتني كما يمشي على أربع!
الحكيم: مالك ومن تبدِّع, وكيف صرت عليهم تشنِّع, ولهم عاديت, وعليهم تعدَّيت, بالأمس كنت عنهم مدافعاً, واليوم نراك بسبِّهم عقيرتك رافعاً, فهل غيروا دينهم ونحلتهم, حتى غدوت تطعنهم وتبهتهم, أم أنك أنت تقلبت, والشقاء لنفسك جلبت, وتلونت تلون الحرباء, وغدوت كثير النِّحَل والأسماء.
فمن الذي حوَّل وبدَّل, ودينه غيَّر واستبدل, فدع عنك التقليد, ولا تكن كالتابع البليد, والصوفي المريد, واهجر مطامعك الشخصية, واترك حظوظك الدنيوية, ونيلك للمركز والـ(ج ن س)ـية, واجعل رضى الله غايتك, وراية الإخلاص رايتك, والصدق فالزم, وكف لسانك تسلم, وانشغل بطاعة الله, ولا تتخذ أرباباً سواه, فليس ينفعك متبوع ولا مقلد, ولو صنفت له المجلد تلو المجلد, واجعل متبوعك الرسول, طالباً من الله القبول, ولا تكن ذا وجهين, ولا ذبابة بمئة عين, وابحث لنفسك عن حسنة, ودع تعدد الألسنة, ولا تكن كالعبيد, فتجعل دينك التقليد, ولا تبعه بسوق من يزيد, فكل من حولك لا ينفعونك, وفي أمس حاجتك إليهم سيفجعونك, بل ويصرعونك.
قال النذل معترفاً: لا فض فوك, ولا عاش شانئوك, فلقد أتيت بالقول الجزل, وحكمت بالحكم الفصل, وبيَّنت لي ما كان عني غائباً, وما أخطأتُ فيه ولم أك صائباً, ووضحت لي أوصافي, كما السحابة في اليوم الصافي, وكان كلامك على قلبي أشد من وعظ الحافي.
ومنذ اليوم أعدك أنني سوف أتوب وأعود, ولن أرجع إلى تمريغ الخدود, وتمجيد الجدود, فقد أثَّر فِيَّ كلامُك, وشقَّ قلبي حسامُك, وكلَّ ما قلته حقًّا, وأتصف به صدقاً, فهذه توبتي بين يديك, ونفسي أسلمها إليك.
الحكيم: ذلك ما نرجو ونحب, فاجعله نبراساً لك ولا يَغِب, وإن كنتُ في شكٍّ من كلامك ومقالك, لخبرتي فيمن هم من أضرابك وأشكالك!
وفجأة وبغير سابق إنذار, وقد رُفعت الأقنعة والأستار..
وصاح صائح, والفجر لائح, صوته كإنشاد المدائح: ها قد قامت فتنة جديدة, وظهرت محنة شديدة, بين سين من الإنسان, وصاد من بني الجان, فهلم يا نذل الأنذال, ومعرة الأجيال, وساقط الرجال, قد أتى دورك وحينك, فيما طال إليه شوقك وحنينك.
فقام النذل فزعاً, ورد الجواب جزعاً, وشمر عن يديه, ملوحاً بساعديه, لعابه يسيل, وثوبه غسيل, بشوق ووله, ناسياً كل ما قيل له, قائلاً: مع من أكون اليوم, وعلى من سيكون اللوم, وأي الفرقتين أناصر, وأي الساعدين أكاسر, فهذا أحبُّ عملي, ومنتهى سؤلي وأملي.
فأطرق الحكيم رأسه مستغرباً, ثم رفعه قائلاً متعجباً: أنت أنت, وستبقى كما كنت, حقاً إن النذالة داء فيك استشرى, ولن ينفع فيك ولو سمعت بدل الموعظة عشرا, فليس يجدي معك إلا الإهمال, وأن تلقى وسط الرمال, وترمى فيها كما الجيفة, وتلك لك مكانة منيفة, ولله در أبي الطيب, مَنْ قوله كالوابل الصيب:

العَبْدُ لَيْسَ لِحُرٍّ صَالِحٍ بأخٍ *** لو أنه في ثياب الحر مولودُ

لا تشتري العبد إلا والعصا معه *** إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ

ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ *** يسيءُ بي فيه عبد وهو محمودُ

فسبحان الله! النذل نذل ولو عاش في المدينة, أو تربى بين أهل الغنم والسكينة.

وصدق والله القائل: (النذل نذل ولو بين الشرفاء ربى).

قال الليث بن ضرغام:

وهنا يقف القلم عن الجريان, مستعيذاً بالله من الخذلان..

وأن يجنبنا حياة الأنذال, وشر الأوحال, وقبح تلك الحال..


الساعة الآن » 04:13.

Powered by vBulletin
.Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd