الإبداع الفضائي

الإبداع الفضائي (https://www.fadaeyat.co/)
-   المواضيع الإسلامية (https://www.fadaeyat.co/f5/)
-   -   طبيب النفوس (https://www.fadaeyat.co/fadaeyat5395/)

ابو نضال 19 ربيع الثاني 1430هـ / 14-04-2009م 14:24

طبيب النفوس
 
إلى الدعاة والعاملين والمصلحين..

إلى الطامحين إلى المعالي لأمتهم ومجتمعهم..

إلى عشاق عودة المجد للأمة..

نتعلم من صاحب الدعوة الأول صلى الله عليه وسلم..

كيف يعامل المخطئ قبل المصيب؟

كيف يضمد الجراح ويقيل العثرات؟

لنأخذ درسًا وعبرةً من هذه القصة

عن خوات بن جبير أنه قال: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران (وادٍ قرب مكة)، فخرجت من خبائي، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت فأخرجت حُلّة من خيمتي فلبستها ثم جلستُ إليهن، فمرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهبته، فقلت: يا رسول الله، جَمَلٌ لي شرُود، وأنا أبتغي له قيدًا!.



فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته، فألقى إليَّ رداءه ثم دخل "الأراك" (موقع بعرفة فيه ماء)، فقضى حاجته وتوضَّأ، ثم جاء فقال:" يا أبا عبد الله، ما فعل شرودُك؟!" ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني إلا قال: "السلام عليكم يا أبا عبد الله، ما فعل شِرادُ جملِك؟" قال: فتعجلْتُ إلى المدينة، واجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا طال ذلك عليَّ تحيَّنت ساعة خَلْوة المسجد، ثم أتيت المسجد فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حُجَره، فجاء فصلى ركعتين خفيفتين، وطوَّلت الصلاة رجاءَ أن يذهب ويدعَني، فقال: "طوِّلْ يا أبا عبد الله ما شئت؛ فلستُ بقائم حتى تنصرف!!"، فقلت: والله لأعتذرنَّ إليه.. فانصرفت، فقال: "السلام عليكم يا أبا عبد الله.. ما فعل شِراد الجمل؟!" فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال: رحمك الله.. مرتين أو ثلاثًا، ثم امسك عني فلم يعد.. (عن لسان العرب).



تمهيد

هكذا تقرر التجربة الإنسانية.. يخاطب الطبيب مريضه في حالة اليأس بأسلوب الأمل في رحمة الله، رغم ما ينطق به الواقع الصارخ فإنه يقدم إليه أكبر نعمة؛ لأنه يمسك في قلبه معاني الرضا ويقرِّبه من رحمة الله.. وبذلك يتوفر للمريض جوٌّ إيمانيٌّ يستعيد به ثقته بربه، التي توشك أن تهرُب أمام هجرة اليأس القاتلة.. إنه بهذا الأسلوب- رغم صحة القرار الطبي علميًّا- يُعين المريض على تجديد ثقته بربه سبحانه وتعالى، وهذا كَسْبٌ أكبر من شفائه المرتقب!.



وحينئذٍ فمن خطأ الطبيب مصارحة المريض بأنه لا أملَ في الشفاء؛ لأن الطبيب- أولاً- بشر يحكم بمقاييس البشر التي تضل وتنسى، وينسى أن هناك إرادةً عليا فوق هذه المقاييس جميعًا ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾ (طه: من الآية 52).. إنها الإرادة التي أوجدت المرض، وهي التي عرَّفتنا قوانين الصحَّة، ثم هي القادرة على طرق هذه القوانين رغم أنف الطبيب.



وثانيًا فالطبيب بهذه المصارحة يحطِّم روح المقاومة في نفس المريض تحطيمًا يسلمه إلى اليأس ويقترب به إلى الكفر، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاجه لموقف خوات بن جبير ذلك الطبيب الخبير بمسارب النفوس وعللها ودوائها ومواطن القوة والضعف فيها، وبهذه الحكمة البالغة انتشل "خوات" من موجة اليأس التي كادت تقتله، لولا أن تداركته رحمة الله برسول الله.. يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: لا تسكن في بلدٍ ليس فيه فقيه ولا طبيب.



فهذا التعبير كاشف عن حاجةِ الإنسان إلى طبِّ الإيمان وطبِّ الأبدان؛ كحاجةِ الداعية إلى مزيدٍ من تأمل أبعاد الحكمة النبوية في مثل هذا الموقف؛ تبصُّرًا وذكرى، وعندما قال له ربه سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ (النحل: من الآية 125) كان ذلك تذكيرًا بضرورة أن يتوفر شرطها، وهو تنزيهُها عن العنَت والتسلُّط ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار﴾ (ق: من الآية 45)، وكأنه سبحانه وتعالى يقول له: وكما ربَّاك الحق سبحانه وتعالى بأحكم أساليب التربية وأدقِّ صورها؛ لا بد أن تكون مع الخَلْق كذلك، ملائمًا لظروفهم، عالمًا بأحوالهم واحتياجاتهم؛ لتؤتي الموعظة أكلها، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع "خوات".



العبر والعظات

1- دون أدنى حرج؛ فإن "خوات" رضي الله عنه يحكي قصته هذه على ما فيها من ذكريات مُرَّة؛ بيد أن التوبة النصوح التي توَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعائه جعلت للذكرى مذاقًا آخر.



إن الإحساس بالذنب يومًا إحساس بمعركة دارت ساعة في كيانه بين جند الرحمن وجند الشيطان، ولقد حقق الشيطان نصرًا جزئيًّا، وتراجع جند الحق في كيانه، عندما ترجم إعجابه بصوت النسوة إلى عمل، فجلس يستمتع بحديثهن، ثم إذا بقائده رسول الله صلى الله عليه وسلم يقترب منه، لا يُعين جند الشيطان عليه، وإنما يتسامح معه ويعينه على النهوض، ثم كانت متعة الحديث عن لحظةٍ من لحظات الانتصار بعد الانكسار.



2- وقبل أن نلوم الفتى على إنصاته للحديث، وقبل أن نوجّه اللوم لشباب اليوم الذين يعيشون نفس اللحظة فلنذكر أولاً ضعف النفس البشرية الداعي إلى التخفيف من حدَّة اللوم، ولنذكر ثانيًا مسئولية أجهزة الإعلام التي تتملّق الغرائز، لا بالصوت وحده، ولكن بالصورة والحركة واللحن.



3- عقدت المفاجأة لسان "خوات"، عندما تكلَّم حادَ لسانه عن طريق الحق فحاول تغليف رغبته الدقيقة بحجَّة البحث عن قيدٍ للجمل الشارد!! وكان من السهل عليه صلى الله عليه وسلم أن يدرك الموقف.. إن "خوات" صحابي جليل له ماضٍ يُشرفه وحاضر يعتزّ به كل مسلم، واليوم يوشك الجواد أن يسقط، بل قد كَبا بالفعل، ثم هو خارج من التجربة الآن، وصوت النسوة الذي أعجبه ما زال يتردَّد في أذنه، والأصداء ما زالت تناوش نفسًا أمَّارة بالسوء، وجيشان الحسِّ بالندم، كل ذلك حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على إرجاء العتاب إلى أن تضيع الأصداء في واحة النسيان، ويتضح الموقف بكل أبعاده، وتستعدَّ نفس "خوات" للحساب.. للحساب اليسير.



4- ويُسْر العتاب هنا واضح؛ فهو يناديه، يا أبا عبد الله؛ تلطُّفًا، ثم هو لا يركِّز العتاب تركيزًا؛ مخافةَ سقوطِ النفس تحت وطأته لو كان شديدًا، وإنما يعاتبه ويذكره بلطفٍ؛ في محاولة لإيقاظ النفس لتنهض رويدًا رويدًا؛ نهوضًا لا سقوط بعده أبدًا.



5- آتت الحكمة النبوية ثمرتها عندما استيقظ حياء "خوات" بكل قوته، فقرر الرحيل إلى المدينة مبكرًا فارًّا من عتابٍ كاد يدمِّره تدميرًا.. إن الواعظ هنا يعاتبه ولا يشهِّر به فيعود العاصي إلى الصف بدافع الحياء وحده..

وكم من حياءٍ ردَّني عن غوايتي حياءً.. وكم جهرٍ دعاني إلى الجهر

6- إن العارف بطبائع النفوس البشرية يفرِّق بين جريمة المعصية من المؤمن وجريمة المعصية من الكافر؛ فمعصية الكافر محاربة واستكبار لا يبقى معها فيه مثقال ذرة من خير، ومعصية المؤمن لا يزال معها في القلب نواة من الخير وبصيص من النور؛ ولذلك يشعر مع مطاوعته لهواه واندفاعه في تيار الشهوة والغضب بوَخْز الضمير والاعتراف بينه وبين نفسه، بأنه ترك ما ينبغي أن يفعله، وفعَل ما لا ينبغي.. ومن هنا قال صلى الله عليه سلم في الرجل الذي كان يديم الشراب على عهده، وكان يجلده كثيرًا، وقد لعنه بعض الصحابة: "لا تلعنوه؛ والله إنه يحب الله ورسوله"، وتعليل ذلك أن ظُلمة الهوى لا تطفئ في قلب المؤمن نور الهدى، وإنما تزاحمه وتغلبه ويبقى ذابلاً ضعيفًا.



والحكمة قاضية بضرورة الستر حفاظًا على بيئة الإسلام؛ لتظل أبدًا نظيفةً تُغري غيرنا بالدخول فيها.. قال ابن هبيرة الوزير العباسي لبعض من يأمرون بالمعروف: "اجتهدوا أن تستروا العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام".



7- وكان تركيزه صلى الله عليه وسلم على شرود الجمل، ولم يخاطبه بالخطأ الذي تورَّط فيه نصًّا، وإنما فقط يذكِّره ولا يُحرجه، ولماذا يكشف له النقاب عن الخطأ وهو يذوب بين يديه حياءً دفعه في النهاية إلى تعجُّل دخول المدينة ومقاطعة المسجد؛ فرارًا من العتاب وإن بدا ضعيفًا، مع أن صلاته في المسجد ورؤيته للرسول صلى الله عليه وسلم لا تعدلهما كنوز الدنيا.



8- ويلاحظ مداعبته صلى الله عليه وسلم في قوله له: "طوِّل يا أبا عبد الله ما شئت فلست بقائم حتى تنصرف"، وهو نداءٌ يدل على صفاء الود، ورقة المعاشرة، والتواضع الجمِّ من رسول الله.. إنه ينادي أصحابه بما يزيل كل الحواجز التي ينصبها الجبَّارون حول أنفسهم في محاولتهم فرض سلطانهم على الناس، ولهذا يسرع على يقين من أن "خوات" لم يشرد جمله قط، ولكن الحوار الهادئ الهادف الواصل إلى أعماق الصحابي الجليل، والذي ينتهي حين كفَّه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ابو فيصل 19 ربيع الثاني 1430هـ / 14-04-2009م 21:37

مجهودك طيب جزاك الله كل خير


الساعة الآن » 13:08.

Powered by vBulletin
.Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd